[]الحنين حالة شعورية تحركها العواطف الإنسانيةتظهر جلية عندما يبتعد المرء عن شئ يحبه ولا يتمكن من الوصول إليه بسهولة إما لبعد مسافة أو لظروف أخرى، وإن كانت لفظة الحنين تقترن بالوطن أكثر لكونه مأوى يجمع كافة ما ألفه الإنسان من ذكريات وأحبة ومن تربى وترعرع بجوارهم من ذوي قرابة وأصدقاء ومناظر طبيعية تحيط به لها أثر في نفسه ، وبجولة فكرية آسرة نلمس من خلالها أن الحنين احتل موقعا مرموقا في الآداب الإنسانية قاطبة لقربه للنفس ومناجاتها وفي أدبنا العربي والإسلامي له بصمته الخاصة والمتميزة إذ يحمل أفراح وأتراح وهموم الذين يتغنون به ممن تركوا ديارهم وأوطانهم ومرابع أحبتهم بفعل هجرة أو سفر إلى فضاءات يحدها ماوراء الأفق هذه الغربة والجوى والحنين طعمت هذا النوع من من الأدب بلون الحزن وحضرت فيه أخدود لمأسات الإنسان الغريب في هذه الحياة فقد يكون مسافرا إلى غير رجعة وقد يكون التلاقي ، ويكفينا دليلا في ذلك أن الحنين إلى ديار المحبوبة كان ركنا من أركان القصيدة العربية في العصر الجاهلي وسلما لابد من إرتقائه لأي شاعر حتى يعبر به للوصول لغرضه المقصود من إنشاء القصيدة .. وتمتاز أشعار الحنين بالصدق والعذوبة ورقة معانيها ودقة ألفاظها وسلاسة أسلوبها ويرجع ذلك لقوة العاطفة التي تحرك القريحة حينها ، مما لايدع مجالا للتكلف والصنعة ن فهذا عنترة بن شداد العبسي يعبر عما ألم به من وجد وحنين إلى مسقط رأسه وأهله فيذوب شوقا فيقول .
أحرقتني نار الجوى والبعاد *** بعد فقد الأوطان والأولاد
وفي بداية طللية يقول إمرئ القيس في معلقته الشهيرة
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ** * لما نسنسجتها من جنوب وشمأل
وقوفا بها صحبي علي مطيهم *** يقولون لاتهلك أسى وتجلد
وبما أن الحنين سجية بشرية لاتنفرد بها أمة دون أمة فإن العصر الإسلامي أخذ النصيب الأوفر منه ، فوازنه بميزان الإسلام وكساه ثوبا قشيبا أكثر بهاء مما كان عليه سابقا ، ومن أكثر قصص الحنين طرافة ورقة في هذا العصر قصة ميسون بن بحدل التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان وأتى بها إلى الحاضرة فأصابها الوجد والجوى والحنين إلى تراب أرضها التي ولدت فيها وترعرت ولم تعجبها المناظر الزاهية والحضارة المدنية فشرعت في التغني بطبيعة البادية وهي في قصر الخلافة فقالت :
لبيت تخفق الأرياح فيه ** أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف
فرق لها الخليفة وطلقها نزولا عند رغبتها وتقديرا لشعورها حتى لاتتحول حياتها الزوجية إلى جحيم ، هنا ندرك أن للحنين سلطانا يستطيع التفريق بين الزوجين وتحطيم عش الزوجية إذا اقتضى الأمر كما ورد في هذه القصة .
ويوجد في الأدب العربي الحديث فصل كامل يطلق عليه اسم (الأدب المهجري ) أنشأه جماعة من الأدباء الذين هاجروا من أوطانهم إلى الغرب وأقصى الشرق فجاء إنتاجهم غزيرا نتيجة لشعورهم بالغربة وكآبة الوحشة ففاضت قرائحهم بأشعار الحنين إلى بلدانهم وعلى رأسهم : إليا أبو ماضي ، وسليم الخوري
وكم من مرة يجلس المرء فيها مستعرضا صفحات الذكريات فيلجأ أحيانا إلى الهروب من شبح الغربة وشدة الحنين فيغلب عليه أحيانا المثل الذي يقول : المستجير من عمر عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار
ومما أملى علي الحنين فصيدة جاء في مطلعها
مالي كيف حالك أخبريها *** وردي القول إن بنا حنينا
مالي إن بي ظمأ شديد *** وفيك مناهل للظامئينا
وعموما فالحياة كلها لقاء ووداع وحنين ولكل رحلة من هذه المراحل خصائصها ومميزاتها ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل الحنين داء يصيب المغتربين فقط أم أنه يمر مرة في حياة المغترب ؟؟ أم أنه مجرد إنفعالات فطرية يمكن زوالها بمرور الأيام ؟؟
وهذا سؤال ينبغي طرحه على المختصين الذين ذاقوا مرارة الغربة واكتوا بنار ها لأنهم أصحاب تجربة ، وصاحب التجربة أعلم بالخفايا من غيره .
size][/color]